الحمد لله الذي أرسل رسوله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، أقام الله على يديه الإسلام بالحجة والبيان، والسيف والسنان، فلم يكن لأحدهما عوضاً عن الآخر، فصلى الله على نبينا محمد النبي المختار وعلى آله وصحبه الأطهار، وسلم تسليماً،، أما بعد:
ففي يوم الاثنين لأربع ليال بقين من صفر سنة إحدى عشرة أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالتهيؤ لغزو الروم وأمرهم بالجد، ثم دعا من الغد يوم الثلاثاء لثلاث بقين من صفر أسامة بن زيد فقال: (يا أسامة سر على اسم الله وبركته حتى تنتهي إلى (موضع) مقتل أبيك فأوطئهم الخيل، فقد وليتك هذا الجيش فأغر صباحاً على أهل أَبْنى، وحرق عليهم، وأسرع السير تسبق الأخبار، فان أظفرك الله فأقلل اللبث فيهم وخذ معك الأدلاء وقدم العيون أمامك والطلائع).1
فلما كان يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من صفر بدأ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجعه فحم وصدع.
فلما أصبح يوم الخميس عقد لأسامة لواء بيده.
ثم قال: (اغز بسم الله في سبيل الله فقاتل من كفر بالله، اغزوا ولا تغدروا ولا تقتلوا وليدا ولا امرأة ولا تتمنوا لقاء العدو فإنكم لا تدرون لعلكم تبتلون بهم، ولكن قولوا: اللهم أكفناهم بما شئت، واكفف بأسهم عنا، فان لقوكم قد جلبوا وضجوا فعليكم بالسكينة والصمت، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم وقولوا: اللهم إنا نحن عبيدك وهم عبادك، نواصينا ونواصيهم بيدك وإنما تغنيهم أنت، واعلموا أن الجنة تحت البارقة)2.
فخرج أسامة رضي الله تعالى عنه بلوائه معقوداً، فدفعه إلى بريدة بن الحصيب الأسلمي، وعسكر بالجرف فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين الأولين والأنصار إلا انتدب في تلك الغزوة منهم أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص، وأبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله تعالى عنهم، في رجال آخرين من الأنصار، عدة مثل قتادة بن النعمان، وسلمة بن أسلم بن حريش.
فاشتكى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو على ذلك، ثم وجد من نفسه راحة فخرج عاصباً رأسه فقال: (أيها الناس انفذوا بعث أسامة) ثم دخل رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
فقال رجل من المهاجرين كان أشدهم في ذلك قولاً عياش بن أبي ربيعة المخزومي رضي الله تعالى عنه: "يستعمل هذا الغلام على المهاجرين!".
فكثرت المقالة، وسمع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بعض ذلك فرده على من تكلم به، وأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فغضب غضباً شديداً.
وخرج يوم السبت عاشر المحرم سنة إحدى عشرة وقد عصب رأسه بعصابة وعليه قطيفة ثم صعد المنبر فحمد الله، وأثنى عليه ثم قال: (أما بعد: أيها الناس، فما مقالة قد بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة! ولئن طعنتم في إمارتي أسامة لقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله، وايم الله إن كان للإمارة لخليقاً، وإن ابنه من بعده لخليق للأمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلي وإنهما لمخيلان لكل خير، فاستوصوا به خيراً فإنه من خياركم).3
ثم نزل فدخل بيته، وجاء المسلمون الذين يخرجون مع أسامة يودعون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيهم عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- ويمضون إلى العسكر بالجرف، ودخلت أم أ يمن رضي الله تعالى عنها فقالت: "يا رسول الله لو تركت أسامة يقيم في معسكره حتى تتماثل فإن أسامة إذا خرج على حالته هذه لم ينتفع بنفسه".
فقال: (أنفذوا بعث أسامة).
فمضى الناس إلى المعسكر فباتوا ليلة الأحد.
ونزل أسامة يوم الأحد ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثقيل مغمور، وهو اليوم الذي لَدّوه فيه، فدخل عليه وعيناه تهملان، وعنده الناس والنساء حوله فطأطأ عليه أسامة فقبله والنبي -صلى الله عليه وسلم- لا يتكلم، فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يضعها على أسامة كأنه يدعو له. ورجع أسامة إلى معسكره.
ثم دخل يوم الاثنين وأصبح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مفيقا وجاءه أسامة فقال له: (اغد على بركة الله).
فودعه أسامة وخرج إلى معسكره لما رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مفيقا.
ودخل أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- فقال: "يا رسول الله أصبحت مفيقا بحمد الله واليوم يوم ابنة خارجة فأذن لي". فأذن له فذهب إلى السنح.
وركب أسامة إلى العسكر وصاح في أصحابه باللحوق بالعسكر، فانتهى إلى معسكره وأمر الناس بالرحيل وقد متع النهار.
فبينا هو يريد أن يركب أتاه رسول أمه أم أيمن يخبره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يموت فأقبل إلى المدينة وأقبل عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح فانتهوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يجود بنفسه، فتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك اليوم.
ودخل المسلمون الذي عسكروا بالجرف إلى المدينة ودخل بريدة بن الحصيب باللواء معقودا فغرزه عند باب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
أبو بكر يأمر بإنفاذ جيش أسامة:
لما بويع لأبي بكر أمر بريدة أن يذهب باللواء إلى بيت أسامة ليمضي لوجهه وألا يحله حتى يغزوهم وقال لأسامة: "أنفذ في وجهك الذي وجهك فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وأمر الناس بالخروج، فعسكروا في موضعهم الأول، وخرج بريدة باللواء.
فلما ارتدت العرب كلم أبو بكر في حبس أسامة فأبى.
ومشى أبو بكر إلى أسامة في بيته فكلمه في أن يترك عمر وأن يأذن له في التخلف ففعل.
وخرج ونادى مناديه: عزمت لا يتخلف عن أسامة من بعثه من كان انتدب معه في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإني لن أوتى بأحد أبطأ عن الخروج معه إلا ألحقته به ماشياً.
فلم يتخلف عن البعث أحد.
وخرج أبو بكر يشيع أسامة فركب من الجرف لهلال ربيع الآخر في ثلاثة آلاف فيهم ألف فارس، وسار أبو بكر إلى جنبه ساعة وقال: "أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك، إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوصيك، فانفذ لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإني لست آمرك ولا أنهاك عنه إنما أنا منفذ لأمر أمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فخرج سريعاً فوطئ بلاداً هادية لم يرجعوا عن الإسلام، جهينة وغيرها من قضاعة.
حتى نزل وادي القرى، فسار إلى أبْنَى في عشرين ليلة.
فقدم له عين له من بني عذرة يدعى حريثا، فانتهى إلى أبنى، ثم عاد فلقي أسامة على ليلتين من أبنى فأخبره أن الناس غارون ولا جموع لهم، وحثهم على السير قبل اجتماعهم.
فسار إلى أبنى وعبأ أصحابه ثم شن عليهم الغارة، فقتل من أشرف له، وسبى من قدر عليهم، وحرق بالنار منازلهم وحرثهم ونخلهم فصارت أعاصير من الدواخين وأجال الخيل في عرصاتهم، وأقاموا يومهم ذلك في تعبئة ما أصابوا من الغنائم.
وكان أسامة على فر س أبيه سبحة، وقتل قاتل أبيه في الغارة، وأسهم للفرس سهمين وللفارس سهما وأخذ لنفسه مثل ذلك.
فلما أمسى أمر الناس بالرحيل ثم أغذ السير فورد وادي القرى في تسع ليال، ثم بعث بشيرا إلى المدينة بسلامتهم، ثم قصد بعد في السير فسار إلى المدينة ستاً حتى رجع إلى المدينة ولم يُصب أحدٌ من المسلمين.
أهل المدينة يستقبلون الجيش المنصور:
وخرج أبو بكر في المهاجرين وأهل المدينة يتلقونهم سرورا بسلامتهم، ودخل على فرس أبيه سبحة واللواء أمامه يحمله بريدة بن الحصيب، حتى انتهى إلى باب المسجد فدخل فصلى ركعتين ثم انصرف إلى بيته.
وبلغ هرقل وهو بحمص ما صنع أسامة فبعث رابطة يكونون بالبلقاء فلم تزل هناك حتى قدمت البعوث إلى الشام في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.4
هكذا نفذ المسلمون أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وساروا على بركة الله تعالى إلى بلاد الشام حتى نصرهم الله على عدوهم، وأرجعهم إلى ديارهم سالمين..
دروس وعبر:
يمكن أن نستخلص بعض الدروس والفوائد مما سبق:
1. أن الجهاد في سبيل الله تعالى هو الوسيلة التي تنال بها الأمة العزة، لهذا نجد أن من آخر ما فعله الرسول في حياته هو تجهيز الجيش لقتال الكفار.
2. فارق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الدنيا وهو يحكم جزيرة العرب، ويرهبه ملوك الدنيا، ويفديه أصحابه بنفوسهم وأولادهم وأموالهم, وما ترك عند موته دينارًا ولا درهمًا، ولا عبدًا ولا أمة، ولا شيئًا إلا بغلته البيضاء، وسلاحه وأرضًا جعلها صدقة(5).
3. رحمة الإسلام بضعفاء الناس ومن لا مشاركة لهم في الحرب، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يوصي أمراءه على السرايا والغزوات ألا يقتلوا شيخاً كبيراً ولا امرأة ولا طفلاً ولا حيواناً.. وهذا يظهر لك الفرق الجلي بين ما تدعيه حضارة اليوم من الرحمة بالإنسان والحيوان..! وهي تقتل البشر في كل مكان وتدمر كل ما يمكن تدميره، كما هو مشاهد في أنحاء العالم اليوم. وبين الإسلام الذي أحكامه من لدن حكيم خبير.
فصلوات الله على نبينا محمد ما أرحمه وأكرمه وأعدله، وما أنبل أهدافه ومقاصده، نسأل الله العظيم أن يحشرنا في زمرته وجمعه الكريم، وأن يجعله شافعاً لنا يوم القيامة.