قال ابن عباس : فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة ، فلما كان يوم الجمعة عجلت الرواح حين زالت الشمس ، فأجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالسا إلى ركن المنبر فجلست حذوه تمس ركبتي ركبته ، فلم أنشب أن خرج عمر بن الخطاب ، فلما رأيته مقبلا ، قلت لسعيد بن زيد : ليقولن العشية على هذا المنبر مقالة لم يقلها منذ استخلف ؛ قال : فأنكر علي سعيد بن زيد ذلك ، وقال : ما عسى [ ص: 658 ] أن يقول مما لم يقل قبله ، فجلس عمر على المنبر ، فلما سكت المؤذنون ، قام فأثنى على الله بما هو أهل له ، ثم قال : أما بعد ، فإني قائل لكم اليوم مقالة قد قدر لي أن أقولها ، ولا أدري لعلها بين يدي أجلي ، فمن عقلها ووعاها فيأخذ بها حيث انتهت به راحلته ، ومن خشي أن لا يعيها فلا يحل لأحد أن يكذب علي ؛ إن الله بعث محمدا ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان مما أنزل عليه آية الرجم ، فقرأناها وعلمناها ووعيناها ، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده ، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : والله ما نجد الرجم في كتاب الله ، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء ، وإذا قامت البينة ، أو كان الحبل أو الاعتراف ؛ ثم إنا قد كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله : لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا تطروني كما أطري عيسى ابن مريم ، وقولوا : عبد الله ورسوله ، ثم إنه قد بلغني أن فلانا قال : والله لو قد مات عمر بن الخطاب لقد بايعت فلانا ، فلا يغرن امرأ أن يقول : إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فتمت ، وإنها قد كانت كذلك إلا أن الله قد وقى شرها ، وليس فيكم من تنقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر ، فمن بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين ، فإنه لا بيعة له هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا ، إنه كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن الأنصار خالفونا ، فاجتمعوا بأشرافهم في سقيفة بني ساعدة ، وتخلف عنا علي بن أبي طالب والزبير بن العوام ومن معهما ، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر ، فقلت لأبي بكر : انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار ، فانطلقنا نؤمهم حتى لقينا منهم رجلان صالحان ، فذكرا لنا ما تمالأ عليه القوم ، وقال : أين [ ص: 659 ] تريدون يا معشر المهاجرين ؟ قلنا : نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار ، قالا : فلا عليكم أن لا تقربوهم يا معشر المهاجرين ، اقضوا أمركم . قال : قلت : والله لنأتيهم . فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة ، فإذا بين ظهرانيهم رجل مزمل فقلت : من هذا ؟ فقالوا : سعد بن عبادة ، فقلت : ما له ؟ فقالوا : وجع . فلما جلسنا تشهد خطيبهم ، فأثنى على الله بما هو له أهل ، ثم قال : أما بعد ، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام ، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا ، وقد دفت دافة من قومكم ، قال : وإذا هم يريدون أن يحتازونا من أصلنا ، ويغصبونا الأمر ، فلما سكت أردت أن أتكلم ، وقد زورت في نفسي مقالة قد أعجبتني ، أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر ، وكنت أداري منه بعض الحد ، فقال أبو بكر : على رسلك يا عمر ، فكرهت أن أغضبه ، فتكلم ، وهو كان أعلم مني وأوقر ، فوالله ما ترك من كلمة أعجبتني من تزويري إلا قالها في بديهته ، أو مثلها أو أفضل ، حتى سكت ؛ قال : أما ما ذكرتم فيكم من خير ، فأنتم له أهل ، ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش ، هم أوسط العرب نسبا ودارا ، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ، فبايعوا أيهما شئتم ، وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح ، وهو جالس بيننا ، ولم أكره شيئا مما قاله غيرها ، كان والله أن أقدم فتضرب عنقي ، لا يقربني ذلك إلى إثم ، أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر .
قال قائل من الأنصار : أنا جذيلها المحكك وعذيقها [ ص: 660 ] المرجب ، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش .
قال : فكثر اللغط ، وارتفعت الأصوات ، حتى تخوفت الاختلاف ، فقلت : ابسط يدك يا أبا بكر ، فبسط يده ، فبايعته ، ثم بايعه المهاجرون ، ثم بايعه الأنصار ، ونزونا على سعد بن عبادة ، فقال قائل منهم : قتلتم سعد بن عبادة . قال : فقلت : قتل الله سعد بن عبادة .